وقال فى لسان العرب: "الفسر: البيان فسَّر الشيء يُفسِّره - بالكسر ويَفسُّره - بالضم فسراً. وفسَّره أبانه. والتفسير مثله... ثم قال: الفسر كشف المغطى، والتفسير المراد عن اللفظ المشكل..."
وقال أبو حيان فى البحر المحيط: "... ويُطلق التفسير أيضاً على التعرية للانطلاق، قال ثعلب: تقول: فسرتُ الفرس: عرَّيته لينطلق فى حصره، وهو راجع لمعنى الكشف، فكأنه كشف ظهره لهذا الذى يريده منه من الجرى".
ومن هذا يتبين لنا أن التفسير يُستعمل لغة فى الكشف الحسِّى، وفى الكشف عن المعانى المعقولة، واستعماله فى الثانى أكثر من استعماله فى الأول.
التفسير فى الإصطلاح: يرى بعض العلماء: أن التفسير ليس من العلوم التى يُتكلف لها حد، لأنه ليس قواعد أو ملكات ناشئة من مزاولة القواعد كغيره من العلوم التى أمكن لها أن تشبه العلوم العقلية، ويُكتفى فى إيضاح التفسير بأنه بيان كلام الله، أو أنه المبيِّن لألفاظ القرآن ومفهوماتها.
ويرى بعض آخر منهم: أن التفسير من قبيل المسائل الجزئية أو القواعد الكلية، أو المَلَكات الناشئة من مزاولة القواعد، فيتكلَّف له التعريف، فيذكر فى ذلك علوماً أخرى يُحتاج إليها فى فهم القرآن، كاللغة، والصرف، والنحو، والقراءات... وغير ذلك.
وإذا نحن تتبعنا أقوال العلماء الذين تكلَّفوا الحد للتفسير، وجدناهم قد عرَّفوه بتعاريف كثيرة، يمكن إرجاعها كلها إلى واحد منها، فهى وإن كان مختلفة من جهة اللفظ، إلا أنها متحدة من جهة المعنى وما تهدف إليه.
فقد عرَّفه أبو حيان فى البحر المحيط بأنه: "علم يبحث عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التى تُحمل عليها حالة التركيب، وتتمات لذلك".
ثم خرَّج التعريف فقال: "فقولنا: "علم"، هو جنس يشمل سائر العلوم، وقولنا: "يُبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن"، هذا هو علم القراءات، وقولنا: "ومدلولاتها" أي مدلولات تلك الألفاظ، وهذا هو علم اللغة الذى يُحتاج إلأيه فى هذا العلم، وقولنا: "وأحكامها الإفرادية والتركيبة"، هذا يشمل علم التصريف، وعلم الإعراب، وعلم البيان، وعلم البديع، وقولنا: "ومعانيها التى تُحمل عليها حالة التركيب"، يشمل ما دلالته عليه بالحقيقة، وما دلالته عليه بالمجاز، فإن التركيب قد يقتضى بظاهره شيئاً ويصد عن الحمل على الظاهر صاد فيحتاج لأجل ذلك أن يُحمل على الظاهر وهو المجاز، وقولنا: "وتتمات لذلك"، هو معرفة النَسْخ وسبب النزول، وقصة توضح بعض ما انبهم فى القرآن، ونحو ذلك".
وعرَّفه الزركشى بأنه: "علم يُفهم به كتاب الله المُنَزَّل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه".
وعرَّفه بعضهم بأنه: "علم يُبحث فيه عن أحوال القرآن المجيد، من حيث دلالته على مراد الله تعالى، بقدر الطاقة البشرية".
والناظر لأول وهلة فى هذين التعريفين الأخيرين، يظن أن علم القراءات وعلم الرسم لا يدخلان فى علم التفسير، والحق أنهما داخلان فيه، وذلك لأن المعنى يختلف باختلاف القراءتين أو القراءات، كقراءة: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} - بضم الميم وإسكان اللام،. وكقراءة {حَتَّى يَطْهُرْنَ} - بالتسكين، فإن معناها مغيرة لقراءة مَن قرأ: "يطهَّرن" - بالتشديد، كما أن المعنى يختلف أيضاً باختلاف الرسم القرآنى فى المصحف، فمثلاً قوله تعالى: {أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً} بوصل "أمَّن"، يغاير فى المعنى: {أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} - بفصلها، فإن المفصولة تفيد معنى "بل" دون الموصولة.
وعرَّفه بعضهم بأنه: "علم نزول الآيات، وشئونها، وأقاصيصها، والأسباب النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها ومدنيها، ومُحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومُطلقها ومُقيدها، ومُجملها ومُفسِّرها، وحلالها وحرامها، ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعِبَرها وأمثالها".
وهذه التعاريف الأربعة تتفق كلها على أن علم التفسير علم يبحث عن مراد الله تعالى بقدر الطاقة البَشرية، فهو شامل لكل ما يتوقف عليه فهم المعنى، وبيان المراد.
التأويل فى اللغة:التأويل: مأخوذ من الأول وهو الرجوع، قال فى القاموس: "آل إليه أولاً ومآلا: رجع، وعنه: ارتد... ثم قال: وأوَّل الكلام تأويلاً وتأوَّله: دبَّره وقدَّره وفسَّره، والتأويل: عبارة الرؤيا".
وقال فى لسان العرب: "الأول: الرجوع، آل الشئ يؤول أولاً ومآلاً رجع، وآول الشئ: رجعه، وأُلت عن الشئ: ارتددت، وفى الحديث: "مَن صام الدهر فلا صام ولا آل" أى: ولا رجع إلى خير... ثم قال: وأوَّل الكلام وتأوَّله: دبَّره وقدَّره. وأوَّله وتأوَّله: فسَّره... الخ".
وعلى هذا فيكون التأويل مأخوذاً من الأول بمعنى الرجوع، إنما هو باعتبار أحد معانيه اللغوية، فكأن المؤوِّل أرجع الكلام إلى ما يحتمله من المعانى.
وقيل: التأويل مأخوذ من الإيالة وهى السياسة، فكأن المؤوِّل يسوس الكلام ويضمه فى موضعه - قال الزمخشرى فى أساس البلاغة: "آل الرعية يؤولها إيالة حسنة، وهو حسن الإيالة، وائتالها، وهو مؤتال لقومه مقتال عليهم، أى سائس محتكم".
والناظر فى القرآن الكريم يجد أن لفظ التأويل قد ورد فى كثير من آياته على معان مختلفة، فمن ذلك قوله تعالى فى سورة آل عمران آية [7]: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ}.. فهو فى هذه الآية بمعن التفسير والتعيين. وقوله فى سورة النساء آية [59]: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.. فهو فى هذه الآية بمعنى العاقبة والمصير. وقوله فى سورة الأعراف آية [53]: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ}.. وقوله فى سورة يونس آية [39]: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}.. فهو فى الآيتين بمعنى وقوع المخبر به. وقوله فى سورة يوسف آية [6]: {وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}.. وقوله فيها أيضاً آية [37]: {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ}.. وقوله فى آية [44] منها: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ}.. وقوله فى آية [45] منها: {أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ}.. وقوله فى آية [100] منها: {هَاذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ}.. فالمراد به فى كل هذه الآيات نفس مدلول الرؤيا. وقوله فى سورة الكهف آية: [78]: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً}.. وقوله أيضاً فى آية [82]: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً}.. فمراده بالتأويل هنا تأويل الأعمال التى أتى بها الخضر من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، وبيان السبب الحامل عليها، وليس المراد منه تأويل الأقوال.
التأويل فى الاصطلاح:
1- التأويل عند السَلَف: التأويل عند السلَفَ له معنيان:
أحدهما: تفسير الكلام وبيان معناه، سواء أوافق ظاهره أو خالفه، فيكون التأويل والتفسير على هذا مترادفين، وهذا هو ما عناه مجاهد من قوله: "إن العلماء يعلمون تأويله" يعنى القرآن، وما يعنيه ابن جرير الطبرى بقوله فى تفسيره: "القول فى تأويل قوله تعالى كذا وكذا" وبقوله: "اختلف أهل التأويل فى هذه الآية"... ونحو ذلك، فإن مراده التفسير.
ثانيهما: هو نفس المراد بالكلام، فإن كان الكلام طلباً كان تأويله نفس الفعل المطلوب، وإن كان خبراً، كان تأويله نفس الشئ المخْبَر به، وبين هذا المعنى والذى قبله فرق ظاهر، فالذى قبله يكون التأويل فيه من باب العلم والكلام، كالتفسير، والشرح، والإيضاح، ويكون وجود التأويل فى القلب، واللسان، وله الوجود الذهنى واللفظى والرسمى، وأما هذا فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة فى الخارج، سواء أكانت ماضية أم مستقبلة، فإذا قيل: طلعت الشمس، فتأويل هذا هو نفس طلوعها، وهذا فى نظر ابن تيمية هو لغة القرآن التى نزل بها، وعلى هذا فيمكن إرجاع كل ما جاء فى القرآن من لفظ التأويل إلى هذا المعنى الثانى.
2 - التأويل عند المتأخرين من المتفقهة، والمتكلمة، والمحدِّثة والمتصوِّفة:
التأويل عند هؤلاء جميعاً: هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به، وهذا هو التأويل الذى يتكلمون عليه فى أصول الفقه ومسائل الخلاف. فإذا قال أحد منهم: هذا الحديث - أو هذا النص - مُؤوَّل أو محمول على كذا. قال الآخر: هذا نوع تأويل والتأويل يحتاج إلى دليل. وعلى هذا فالمتأوِّل مطالَب بأمرين:
الأمر الأول: أن يبيِّن احتمال اللفظ للمعنى الذى حمله عليه وادَّعى أنه المراد.
الأمر الثانى: أن يبيِّن الدليل الذى أوجب صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجح، وإلا كان تأويلاً فاسداً، أو تلاعباً بالنصوص.
قال فى جمع الجوامع وشرحه: "التأويل حمل الظاهر على المحتمل المرجوح، فإن حُمِل عليه لدليل فصحيح، أو لما يُظَن دليلاً فى الواقع ففاسد، أو لا شيء فلعب لا تأويل".
وهذا أيضاً هو التأويل الذى يتنازعون فيه فى مسائل الصفات، فمنهم مَن ذم التأويل ومنعه، ومنهم مَن مدحه وأوجبه.
وستطلع عند الكلام على الفرق بين التفسير والتأويل على معان أخرى اشتُهِرت على ألسنة المتأخرين.
sumber : al-Tafsir wal mufassirun lidz-Dzahabi
0 comments:
Post a Comment
terimakasih ^_^